التَّضَخُّم وسِعْر الفَائِدَة والرِّبَا.. حُدود العَلاقَة والتَّأثير JE9BIVZiUXwAwygzUaweOc_Vc32Hc2Vems25C8V0EoWYlCr4qjBYYfy0co4ayw1Q1Jqmd1wUcRY7kF0vkCC2jZV_RIyA3e22NqMGrX0QcjjQkzHxxiiK_bqxOXNTpOhXX_xMsKY1YeHnlV27d-WKwiM



تناول الكتاب التَّضخُّم كأحد أبرز التَّحدِّيات الاقتصاديَّة التي تُواجه الدُّوَل والحكومات، خاصَّةً أنَّ له آثارًا على عدَّة مستويات، اجتماعيًّا وسياسيًّا، وعلى الرَّغم من وجود العديد من التّجارب في مجال علاج التَّضخُّم، إلَّا أنَّ غالبيَّة التّجارب لم تتمكَّن من إيجاد حلٍّ جذريٍّ له، فسياسات استهداف التَّضخُّم غالبًا ما تَستهدف علاج آثاره ونتائجه، مع تراجُع واضح في السِّياسات التي تَستهدف مُعالَجة أسبابه وجذوره، وهذا الواقع جعَل من التَّضخُّم أزمة اقتصاديَّة تُهدِّد كبرى الاقتصادات الدّوليَّة، فلا يوجد دولة في منأًى عنه، وهو ما يَتطلَّب دراسة وتحليل التَّضخُّم من زاويةٍ جديدةٍ، ووجهةٍ نظر غير تقليديَّة.
 
تتعدَّد الكتب والدِّراسات التي اهتمَّت بدراسة وتحليل أسباب ونتائج التَّضخُّم، وطُرق وأدوات علاجه، لكنَّها لم تتمكَّن من تقديم رؤية جديدة في هذا المجال، ومِن المُلاحَظ هنا أنَّ بعض الكُتُب والدِّراسات اهتمَّت بدَوْر الاقتصاد الإسلاميّ في إيجاد حَلٍّ لقضيَّة التَّضخُّم، لكنْ وحتَّى الآن لم يتمّ تقديم تَصوُّر دقيق لدَوْر الاقتصاد الإسلاميّ في هذا الأمر، لا سيَّما أنَّ النُّظُم الاقتصاديَّة التَّقليديَّة لم تَتمكَّن -حتى الآن- من إيجاد حلّ جذريّ للتَّضخُّم، وانطلاقًا من هذا الطَّرح، فإنَّ هذا الكتاب يَسْعى لتقديم رؤية جديدة لطبيعة وماهيَّة العلاقة التي تربط كلًّا من التَّضخُّم بالرِّبا وبسِعْر الفائدة، وذلك على اعتبار أنَّ سعر الفائدة من أكثر المفاهيم التصاقًا بالتَّضخُّم، كما أنَّه الأداة الاقتصاديَّة الأكثر شيوعًا ضِمْن أدوات استهداف ومُعالَجة التَّضخُّم.
 
سعى الكتاب لتحقيق هَدفه البَحْثيّ من خلال تناول مُختَلف جوانب العلاقة ما بين كلٍّ من مفاهيم التَّضخُّم والرِّبا وسعر الفائدة، وذلك من خلال فُصُوله ومباحثه، بادئًا بشيءٍ من التَّفصيل حول أزمات التَّضخُّم الحادَّة التي تُواجِه غالبيَّة الدُّوَل في عالَم اليوم، ومُحلِّلًا تأثير التَّضخُّم على مُؤشِّرات أخرى مُتعدِّدَة، كالنَّاتج المَحلِّيّ الإجماليّ والبطالة ومستوى التَّشْغِيل، وغيرها من المُؤشِّرات.
 
كما اهتمَّ الكتاب بشكلٍ مُعمَّق بدراسة وتحليل الأدوات والسِّياسات المُتَّبَعة في علاج التَّضخُّم، مُفصِّلًا في بعض تجارب الدُّوَل المُتقدِّمة والنَّامية، ومن جهةٍ أخرى، تناول الكتاب بالتَّفصيل تحليل العلاقة ما بين سعر الفَائدة والرِّبا، وتحديد الآثار السَّلبيَّة لكلٍّ منهما، وفي هذه القضيَّة يرى الكاتب أنَّ سعر الفائدة والرِّبا يشيران لذات المفهوم الاقتصاديّ بغضِّ النَّظر عن اختلاف الدَّلالة اللُّغويَّة والاصطلاحيَّة.
 
وأشار الكتاب إلى أنَّ التَّضخُّم في جَوْهره يعود لخللٍ في المعروض النَّقدِيّ في السُّوق، وفي ذات الوقت يُعدّ سِعْر الفَائِدَة من أسباب الخَلَل في المعروض النَّقدِيّ، فهذا الأمر يُعدّ مُؤشِّرًا أوليًّا على أنَّ سِعْر الفَائِدَة قد يكون من أسباب التَّضخُّم، وبالتَّأكيد فإنَّه -في حال تمَّ إثبات هذا الأمر- لا يمكن أن يكون سبب أيّ مشكلة عنصرًا من عناصر الحلّ.
 
وعرَّج الكتاب على قضيَّة فاعليَّة السِّياسات النَّقديَّة في التَّعامُل مع التَّضخُّم، وعلى رأسها سِعْر الفَائِدَة؛ وأنَّ هذه السِّياسات والأدوات تتجَاهل طبيعة النُّقُود الحاليَّة، فالنُّقُود الحاليَّة هي نُقُود قانونيَّة، بمعنى أنَّ قيمتها تُستمدّ مِن قَبُول السُّلطات النَّقْديَّة لها، واعتمادها كوسيطٍ للتَّبادل وحافِظ للقيمة، فهي بعكس المعادن الثَّمينة (الذَّهَب والفِضَّة) لا قيمة حَقِيقيَّة ذاتيَّة لها؛ فهذه النُّقطة لم يتمّ أخذها بعين الاعتبار عند محاولة فَهْم جَوْهر التَّضخُّم النَّقديّ؛ وفي ذات الوقت فإنَّ التَّطوُّرات التِّكنولوجيَّة والاقْتِصَاديَّة أفرزت نمطًا جديدًا من النُّقُود وهي النُّقُود الإلكترونيَّة، والتي تشهد انتشارًا متسارعًا على مستوى العالَم أجمع، وهذه النُّقُود تختلف في طبيعتها وجوهرها عن النُّقُود الورقيَّة الحاليَّة؛ إذ لا وُجُود مادِّيّ لها، وهذه النُّقُود لا بُدّ من فَهْم طبيعتها بدِقَّة؛ كونها تُؤثِّر على التَّضخُّم بشكلٍ أو بآخر، ولا بُدَّ من اختبار معيار سِعْر الفَائِدَة وغيره من الوسائل النَّقْديَّة في قدرته على مُعالَجة التَّضخُّم.
 
وتَوصَّل الكتاب إلى أنَّ سِعْر الفَائِدَة -الذي يعني في جوهره زيادة كمِّيَّة النُّقُود مع الزَّمن بنِسْبَة مُحدَّدة- يعني أنَّ النُّقُود تزداد من تلقاء نفسها، وهذه الزِّيادة غير المُسْتَنِدَة على عملٍ إنتاجيّ حقيقيّ تتقاطع مع جوهر التَّضخُّم الذي يشير إلى زيادة كمِّيَّة النُّقُود في السُّوق بشكلٍ لا يتناسب مع الإنتاج الحقيقيّ؛ لذلك فإنَّ التَّضخُّم وسِعْر الفَائِدَة يتقاطعان بشكلٍ مباشرٍ عند قضيَّة زيادة النُّقُود في السُّوق، وهو ما يقود إلى أنَّ سِعْر الفَائِدَة لا يمكن أن يكون حلًّا للتَّضَخُّم؛ كونه يتقاطع معه في الجوهر والدَّلالة الاقْتِصَاديَّة.
 
إنَّ النِّظَام النَّقْديّ الدّوليّ، مع المَنْظُومَة المَصْرِفيَّة، يقومان على جُمْلَةٍ من الأُسُس الرَّاسخة، والتي تُعدّ بيئة مساعدة للتَّضَخُّم، وهذه البيئة أفْرَزَت أدوات اقْتِصَاديَّة جديدة تُسْهم في تكريس مصالح فئات مُحدَّدَة من الدُّوَل والمستثمرين على حساب السَّواد الأعظم من الدُّوَل والمجتمعات، كأسواق الفوركس والأسواق الماليَّة والمُؤسَّسَات النَّقْديَّة والماليَّة الدّوليَّة، والتي تُعدّ بيئة مساعدة لارتفاع التَّضخُّم، والنِّظَام النَّقْديّ والمَصْرِفيّ الدّوليّ قام بحماية الدُّوَل الغربيَّة من ارتدادات هذه الأدوات، بينما كانت الدُّوَل الفقيرة والنَّامية في مُواجَهَة مُباشِرَة مع تداعيات هذه الأدوات، وهو ما يَظْهر بشكلٍ واضح من خلال مُعَدَّلات التَّضخُّم المعتدلة نِسْبيًّا في الدُّوَل الغربيَّة، بينما تشهد الاقتصادات النَّامية مَوْجَات حادَّة من التَّضخُّم، لذلك فإنَّ أيّ حديث عن إصلاح نَقْديّ أو مَصْرِفيّ دوليّ لن ينجح إلَّا في حال علاج جذور المشكلة، وليس أعْرَاضهَا، وذلك من خلال العمل على بناء نظام نقديّ جديد، يَضْمن المُساوَاة والعدالة الاقْتِصَاديَّة الدّوليَّة، والاستقرار الاقتصاديّ العَالَميّ.
 
وتناول الكتاب موقف الشَّريعَة الإسْلاميَّة من الرِّبَا أو سِعْر الفَائِدَة؛ فقد حرَّم الإسلام الرِّبَا تحريمًا قاطعًا، والتَّحريم هنا يعود للآثار السَّلبيَّة التي يُسبِّبها الرِّبَا اجتماعيًّا واقتصاديًّا، وذات الأمر ينسحب على الاقْتِصَاد الإسْلَاميّ، الذي بدَوْره رفَض التَّعامُل مع الرِّبَا أو القبول به، وذلك من منظور إسلاميّ واقتصاديّ، ورفض الإسلام من مبدأ اقتصاديّ وفقهيّ علاج التَّضخُّم بسِعْر الفَائِدَة، وذلك انطلاقًا من قناعته بأنَّ أسباب المشكلة لا يمكن أن تكون جزءًا من الحلّ؛ فالخطوة الأولى في حلّ أيّ مشكلة تَتمثَّل في استبعاد الأسباب التي أدَّت لحدوث المشكلة، فسِعْر الفَائِدَة أدَّى لخلل في توزيع الثروة بين الدُّوَل الغنيَّة والفقيرة وبين أفراد المُجْتَمَع، ولكنَّ الإسلام ومن خلال مبادئ الاقْتِصَاد الإسْلَاميّ لم يكتفِ بتحريم الرِّبَا، وبانتقاد استخدام سِعْر الفَائِدَة في علاج التَّضخُّم، بل قدَّم جُمْلَة من الحلول، إضافةً إلى ذلك فإنَّ الاقْتِصَاد الإسْلَاميّ يعتقد أنَّ التَّضخُّم ليس مشكلة أصيلة في الاقتصاد، بل هي مشكلة طارئة سببها السِّياسات الاقْتِصَاديَّة القائمة بمُجْمَلها على سِعْر الفَائِدَة، ولذلك فالعدالة الاقْتِصَاديَّة والاجتماعيَّة والاستقرار الاقتصاديّ يبدأ بالاستغناء عن سِعْر الفَائِدَة، وتقديم بدائل حقيقيَّة وفعليَّة له.
 
وأكَّد الكتاب أنَّ البِنْيَة النَّظريَّة للاقتصاد الإسلاميّ والمُرتَبِطَة ببدائل سِعْر الفَائِدَة تُعدّ ضَعِيفَة الفاعليَّة، فالواقعُ يُحَتِّمُ الاعترافَ بأنَّ الاقتصاد الإسلاميّ حتى الآن لم يَتمكَّن من تقديم صِيغَة اقتصاديَّة مُتكامِلَة قَادِرَة على قيادة الاقتصاد العَالَميّ، فالنِّظامُ الاقتصاديّ العالَميّ السَّائد، وعلى الرَّغْم من سلبيَّاته العديدة، إلَّا أنَّه يَمْتلك أدواتٍ تطبيقيَّة وأُسُسًا نظريَّة مُتكامِلَة، وهذا ما يَفْتَقده الاقتصاد الإسلاميّ؛ لذلك فإنَّ إيجاد بديلٍ حقيقيٍّ وفعَّالٍ لسِعْر الفَائِدَة وللنِّظام الاقتصاديّ الدّوليّ السَّائِد يتطلَّب تَطوير البِنْيَة النَّظريَّة للاقتصاد الإسْلاميّ، وبَحْث جَوْهَر مشكلة سِعْر الفَائِدَة، وهذا الأمر لا يمكن أن يَضطلع به مُنَظِّرو الاقتصاد الإسلاميّ بمُفْرَدهم، فلا بُدّ من تَضَافُر الجهود الاقتصاديَّة مع الفِقْهيَّة، فالحَلّ من الممكن أن يكون من خلال مؤتمرات وندوات وأوراق عِلْميَّة يقوم بها علماء الفِقْه والاقتصاد بالتَّشارُك مع البُنُوك المركزيَّة؛ فاجتماع كلّ أطراف العلاقة يُعدّ أمرًا حيويًّا لنجاح هذه المَهمَّة، ولكن وحتى الآن لم تَتوفَّر هذه المُتَطَلَّبَات، فكُلُّ الجهود ما زالت تَقْتَصر على الفِكْر الفَرْدِيّ، مع غيابٍ شِبْه تَامّ للعَمل المُؤسَّسِيّ المُتكامِل.
 
 إنَّ التَّضخُّم وعلى اعتباره من أكثر التَّحدِّيات الاقتصاديَّة تعقيدًا، ومن أكثرها تَداخلًا مع المُؤشِّرات الاقتصاديَّة الأخرى، وتشابكًا مع المُؤشِّرات السِّياسيَّة والاجتماعيَّة، لا يمكن من خلال جُهْد بَحْثيّ واحد تقديم حلول ناجعة له، فالعَمل البحثيّ والجُهْد العِلْميّ قائم بطبيعته على تَراكُم الجهود البَحثيَّة، وتَضافُر جهود الباحثين، لذلك واستنادًا على هذا الطَّرح فإنَّ هذا الكتاب قد يكون حَلقة من حلقات البَحْث العلميّ السَّاعي لإيجاد حلّ فعَّال ونهائيّ للتَّضخُّم، ومُساهَمة حقيقيَّة في تعميق الفَهْم الاقتصاديّ لهذه القضيَّة، فالكتاب خُطوة جديدة باتِّجاه تطوير البِنْيَة الاقتصاديَّة النَّظريَّة المُوجَّهة للتَّضخُّم، وسعيًا أكاديميًّا لتحقيق مزيدًا من الدَّمْج التَّطبيقيّ بين الاقتصاد الإسلاميّ كنظامٍ اقتصاديّ جديد وبين القضايا الاقتصاديَّة الأكثر إلحاحًا في القاموس الاقتصاديّ.


لتحميل الكتاب  : https://bit.ly/3GHuHEV