الكاتب:د/ أسماء الرويشد.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحابته وسلم تسليمًا كثيرًا. وبعد:
إن من أهم المهمّات، وأوجب الواجبات، تحقيق الإيمان وتكميله، إذ إنّ كل خير في الدنيا والآخرة متوقف على وجوده وصحّته وكماله, قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}. (سورة المجادلة: 11)
لذلك كان لا بدّ من الحديث عن الإيمان وأهمية تفقده وتكميله، إذ هو المنّة العظمى, كما قال تعالى: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (سورة الحجرات: 17), وباكتمال الإيمان تحصل سعادة الدنيا والآخرة، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىوَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (سورة النحل: 97), والإيمان شرط لقبول العمل, قال الله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} (سورة الأنبياء: 94), وعلى قدر تحصيل الإيمان وتحقيقه؛ يحصل الثبات للإنسان أمام مُغريات الفتن وتيّارات المحن, قال الله تعالى:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ}. (سورة إبراهيم: 27)
حقيقة الإيمان: هو الإقرار والاعتراف المستلزم للقبول للأخبار، والإذعان للأحكام؛ فلا يكفي في تحقيق الإيمان المعرفة وحدها، أو التصديق القلبي فقط؛ فلو أنّ رجلاً أقرّ بالله تعالى وبصحّة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم, ولكنه لم يقبل ويستسلم لِما بلغهُ من أحكام الإسلام؛ فإنه كافر وليس بمؤمن؛ لأجل ذلك قال الله تعالى عن الكفّار من أهل الكتاب: {الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}. (سورة الأنعام: 20)
ما هو الإيمان الذي يعصم صاحبه من عذاب الله تعالى؟
ذلك هو الإيمان الواجب الذي يمنع صاحبه من التقصير في الواجبات، والوقوع في المحرّمات على وجه الإصرار والاستهانة؛ لذلك جاءت النصوص بنفي الإيمان عن أهل الكبائر، ويُراد بها انتفاء الإيمان الواجب, ولا يُراد به انتفاء الإيمان كله؛
ولعظم مكانة المؤمن عند ربّه فلقد خصّه الله جل وعلا بفضائل كبيرة في الدنيا، ولأجر الآخرة أكبر وأعظم, ومنها:
1- معيّة الله تعالى للمؤمن, قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}. (النحل: 128) 2- الدفاع عن المؤمن, قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا}. (سورة الحج: 38)
3- تسديد المؤمن وتوفيقه للهداية, قال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّور}. (سورة البقرة: 257)
4- وأما منزلة المؤمن في الآخرة؛ فهو رضوان الله, وجنّاته, ورؤية وجهه الكريم، والأنس باستماع كلامه, قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}. (سورة التوبة: 72) وقد قسّم ابن القيم القلوب إلى ثلاث أقسام على حسب ما يقوم بها من إيمان: القلب الأول: قلبٌ خال من الإيمان وجميع الخير؛ فذلك قلبٌ مظلم قد استراح الشيطان من إلقاء الوساوس فيه؛ لأنه قد اتخذه بيتاً ووطناً.
القلب الثاني: قلبٌ قد استنار بنور الإيمان، وأوقد فيه مصباحه، لكن عليه ظلمةالشهوات وعواصف الأهوية ؛ فللشيطان هناك إقبالٌ وإدبار.
القلب الثالث: قلب محشوٌ بالإيمان, انقشعت عنه حجب الشهوات؛ فلنورهِ في قلبهِ إشراق، ولذلك الإشراق إيقاد لو دنا منه الوسواس احترق به.
مظاهر ضعف الإيمان: إن لضعف الإيمان في القلب علامات ظاهرة في أقوال العبد وأفعاله وسائر حاله، والشاهد على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: [ألا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً؛ إذا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ, وإذَا فَسَدَتْ فسدَ الجَسدُ كُلُّهُ, ألا وهِيَ القَلبُ] (صحيح), وصلاح القلب وفساده يكون بقوة الإيمان وضعفه. هناك بعضًا من تلك العلامات والمظاهر، وقد خُصّت بالذكر لخطورتها وكثرة شيوعها منها:
1- اقتراف الذنوب مع استصغارها والإصرار عليها:فإصرار العاصي على الذنب ولو كان صغيرًا علامة استهانته بالله الذي عصاه, بينما المؤمن قد تفرط منه معصية, وقد تكون كبيرة من غير إصرار، ولا يكون ذلك مؤشرًا لضعف إيمانه؛ لأن إيمانه يدفعه لأن يتوب ويُنيب إلى الله تعالى,والنبي صلى الله عليه وسلم قد ربط بين المعصية وبين ضعف الإيمان بقوله: [لا يَزني الزَّاني حينَ يَزني وهوَ مؤمنٌ, ولا يَسرقُ السارقُ حينَ يسرقُ وهوَ مؤمنٌ]. (صحيح)
2- التقاعس عن الطاعات والتثبيط دونها:والميل إلى الراحة والملذّات من علامات المنافقين, قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا}. (سورة النساء: 142)
3- التنافس على الدنيا:فمظهر التنافس على الدنيا والاشتغال بها من علامات جهل العبد بحقيقتها, وضعف إيمانه بالله والدار الآخرة.
4- الغفلة عن ذكر الله عزّ وجل: كما جاء في وصف ضعاف الإيمان ومرضى القلوب, وهم المنافقون في قلة ذكرهم لله وطول غفلتهم, قال تعالى: {يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا}. (سورة النساء: 142)
5- إهمال محاسبة النفس وعدم مؤاخذتها في تقصيرها: فضعيف الإيمان يواقع الذنب تلو الذنب بلا ندم، وما ذلك إلا بإهماله لمحاسبة نفسه وتركها على جنوحها من غير تقويم وتأديب.
6- عدم أو ضعف التأثر بالآيات والمواعظ: وذلك من جرّاء قسوة القلب والكثافة التي تتابعت من توالي الذنوب والمعاصي، كما قال تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}. (سورة المطففين: 14) 7- أن تمر الموعظة والنصيحة والمشهد المؤثر على قلب ضعيف الإيمان كما تمر قطرة الماء على الصفا بلا أثر ولا تأثر: ومن علامات ذلك جمود العين, وعدم التأثر بآيات القرآن عند قراءتها وسماعها، قال الله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}. (سورة الزمر: 23)
8- ظهور الأخلاق السيئة:كالعجب والأثرة (حب الذات), قال صلى الله عليه وسلم : [لا يُؤمِنُ أحدُكم حتى يُحِبَّ لأخيه ما يُحِبُّ لنَفْسِه].(صحيح)
9- الاستئناس بمجالس المعصية ومعاشرة أهلها:فمخالطة أهل الغفلة وأهل الزيغ من أكبر أسباب مرض القلب, وهبوط الإيمان, ومظاهر نقصانه, قال صلى الله عليه وسلم: [الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل ].(صحيح)
مظاهر قوة الإيمان:
1- سرعة الانقياد للشرع:فأعظم آثار الإيمان في قلب المؤمن التزامه بشرع الله، ومحافظته عليه، وأن يكون واقفًا عند حدوده ونواهيه، كما قال تعالى:{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}. (سورة النور: 51-52)
2- اجتناب لوثات الشرك: إنّ من آمن أن الله عز وجل هو الخالق الرازق الذي بيده الأمر، علم يقينًا أن الخلق كلهم فقراء إليه، لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًا، ولهذا فإنه إذا سأل سأل الله، وإذا توكل توكل على الله، علم يقينًا وآمن حقًا أن الله تعالى كاف عبده المؤمن؛ فتوكل عليه واطمأن به، كما قال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}. (سورة الزمر: 36)
3- مدافعة الوساوس الشيطانية: فالمؤمن إذا خطر بقلبه خواطر ووساوس شيطانية من الشك في الدين أو العبادة لا يستسلم لها؛ بل يلجأ إلى الله تعالى في دفعها عنه حتى تزول عنه ويندحر الشيطان.
4- الحب في الله واستشعار الأخوة للمؤمنين: من أَجَلِّ آثار قوة الإيمان وصحّته حب المؤمن لإخوانه في الدين، ولا سيما أهل الطاعة والخير.
5- بغض أعداء الله ومجانبتهم: و ولاؤه لله عز وجل ورسوله وللمؤمنين, قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا}. (سورة المائدة: 55)
6- الخُلق الحسن: فالإيمان قوة دافعة إلى المكرمات والأخلاق الحسنة، وقد وضح النبي صلى الله عليه وسلم أن الإيمان القوي يولد الخلق الكريم حتمًا، وأن انهيار الأخلاق مرده إلى ضعف الإيمان.
7- الصمود في مواجهة الفتن: فالله جلّ وعلا يختبر صدق إيمان عباده ويظهر حقائق معادن قلوبهم في مواقف الاختبار بالفتن من خير وشر, ونعمة ومصيبة, كما قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً}. (سورة الأنبياء: 35)
ولزيادة الإيمان وتقويته أسباب كثيرة أهما ما يلي: أولاً/ تعلم العلم النافع: وهو العلم المستمد من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من مسائل العقائد والحلال والحرام, والفضائل والمعارف المتنوعة؛ فمن وُفق لهذا العلم فقد وُفق لأعظم أسباب زيادة الإيمان؛ فقد قال تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (سورة الحج: 54), وينبغي التنبيه إلى أن العلم ليس مقصودًا لذاته؛ بل هو وسيلة لأعظم الغايات وهو التعبّد لله بالعمل، قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ}. (سورة الزمر: 2)
وعلى هذا فزيادة الإيمان الحاصلة من جهة العلم تكون من وجوه متعددة:
1- من جهة خروج صاحبه في طلبه.
2- جلوسه عليه في حلقة العلم والذكر ومُذاكرة مسائله.
3- زيادة معرفته بالله وشرعه.
4- تطبيقه لما تعلمه.
5- من حيث تعليمه الجاهل ما تعلمه.
6- الصبر على تحصيله والدعوة إليه. فهذه جوانب متعددة يزداد بها الإيمان بسبب العلم وتحصيله، أما أبواب العلم الشرعي التي يحصل بها زيادة الإيمان فكثيرة جدًا منها:
1-قراءة القرآن الكريم وتدبره: لا شك أن أعظم أبواب العلم دراسة كتاب الله وتناوله بالفهم والتدبر، وبه يزداد الإيمان ويثبت ويقوى, قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (سورة الأعراف: 52)؛ وقد أخبر سبحانه أنه إنما أنزله ليدَّبَّر العباد آياته؛ فقال:{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}. (سورة ص: 29)
2- العلم بأسماء الله الحسنى وصفاته العُلى: فإن تعلم أسماء الله وصفاته والاشتغال بمعرفتها من أعظم أبواب العلم التي يحصل بها زيادة الإيمان، إذ لا سبيل إلى معرفة الرب سبحانه إلا بمعرفة أسمائه ونعوته التي يُعرف بها سبحانه إلى عباده من الكتاب والسنة الصحيحة، كما أن معرفة الله تقوِّي في العبد جانب الخوف والمراقبة، كما قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}. (سورة فاطر: 28)
3- دراسة سنة النبي والتأمل في سيرته: من أسباب زيادة الإيمان النظر في سيرة النبي وهديه, ويكفي أن الرب عز وجل أقسم على كمال هذا الرسول وعظمة أخلاقه وأنه أكمل مخلوق بقوله: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ* وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ* وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}. (سورة القلم: 1-4)
4- قراءة سيرة سلف هذه الأمة: من تأمل حال أولئك الأخيار وقرأ سيرهم؛ فإن المتأمل سيقف من خلال ذلك على قصور نفسه وضعف همته، وسيكون ذلك مقويًا لعزيمته, داعيًا إلى صدق التأسي بهم.
ثانيًا/ التأمل في آيات الله الكونية:فالتأمل في آيات الله الكونية ومخلوقاته العظيمة يعود بالنفع وتقوية الإيمان وتثبيته؛ لأن التفكر الذي حقيقته النظر والاعتبار يكون به الإدراك الواعي لوحدانية الله, وعظيم ملكه, وكمال قدرته، يفجّر في قلب العبد ينابيع الإيمان وتعظيم الله وإجلاله، وينبهه إلى كثرة نعمه وآلائه.وكان سفيان بن عيينة يقول: (إذا المرء كانت له فكرة، ففي كل شيء له عبرة), ومما يُربي في النفس فضيلة التفكّر دعوة القرآن إلى النظر في آيات الله ومفعولاته التي هي مخلوقاته، وآثار صنعه والتي هي أعظم دليل على وحدانيته وتفرده، قال الله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} (سورة الحشر: 2), وربط بين التفكر والعبرة وبين مواطنها المتعلقة بما خلق الله وأبدع في كونه من أشياء داعية إلى توحيده وخشيته؛ فيقول تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ}. (سورة النحل: 66)
ثالثًا/ الاجتهاد في الأعمال الصالحة:فمن أهم أسباب زيادة الإيمان وأظهرها القيام بالأعمال الصالحة الخالصة لوجه الله تعالى، والإكثار منها والمداومة عليها؛ فإن كل عمل يقوم به المسلم مما شرعه الله ويخلص نيته فيه يزيد في إيمانه؛ لأن الإيمان يزيد بزيادة الطاعات وكثرة العبادات.
والأعمال الصالحة تنقسم من حيث متعلقها إلى ثلاثة أقسام:
أولاً/ أعمال القلب:الإخلاص، والمحبة، والتوكل، والإنابة، والرجاء، والخوف، والرضا والصبر وغيرها من أعمال القلب، وهي في الحقيقة أصل الدين ورأس أمره؛ لأن الأعمال الظاهرة لا تُقبل إن خلت من الأعمال القلبية، ولا عبرة بصلاح الظاهر مع فساد الباطن؛ فمثلاً الأعمال كلها يشترط في قبولها الإخلاص لله عز وجل والإخلاص عمل قلبي؛ لذا لزم على كل مسلم أن يبدأ بالاعتناء بإصلاح قلبه وتحقيق تلك الأعمال فيه.
ثانياً/ أعمال اللسان:كذكر الله عز وجل وحمده والثناء عليه وقراءة كتابه والصلاة والسلام على رسوله , وقد قال تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (سورة الجمعة: 10)، وقال تعالى: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}.(سورة الرعد: 28)
ثم إن من أعظم العبادات القولية التي تزيد في الإيمان الدعاء والدعوة إلى الله، قال : [الدعاء هو العبادة](صحيح),والدعوة إلى الله من أكبر مقويات الإيمان؛ لأن صاحبها يسعى إلى نصرة هذه الدعوة, ويقيم الأدلة والبراهين لتحقيقها؛ فالجزاء من جنس العمل، فكما سعى إلى تكميل العباد ونصحهم وتوصيتهم فإن الله يجازيه بتأييده بنورٍ منه وقوة إيمان.
ثالثاً/ أعمال الجوارح:من صلاة وصيام وحج وصدقة وجهاد وغير ذلك من الطاعات؛ فالاجتهاد في القيام بالطاعات التي افترضها الله على عباده، والإتيان بها على أحسن الوجوه وأكملها من أعظم أسباب قوة الإيمان وزيادته, قال الله تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ* إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ* فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ* أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ* الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (سورة المؤمنون: 1-11)؛فهذه الصفات الثمان، كل واحدة منها تثمر الإيمان وتنميه، كما أنها من صفات الإيمان وداخلة في تفسيره.فحضور القلب في الصلاة من أسباب زيادة الإيمان ونموه, والزكاة كذلك تنمي الإيمان وتزيده، فرضها ونفلها، والإعراض عن اللّغو, وكذلك العفّة عن الفواحش خصوصًا فاحشة الزنا، ورعاية الأمانات والعهود وحفظها من علامات الإيمان.وختمها بالمحافظة على الصلوات على حدودها وحقوقها، وأوقاتها؛ لأن المحافظة على الصلوات على حدودها وحقوقها، وأوقاتها؛ بمنزلة الماء الذي يجري على بستان الإيمان فيسقيه وينميه، ويؤتي أكله كل حين.