كلما ذهبتْ أمى للطبيب ووضع مجس جهاز الموجات الصوتية على بطنها اعتدلتُ فى مكانى وابتسمتُ متأهبا للتصوير، كنت أتلهف لإسعادها ولو من خلال صورة أبدو فيها كما كان يقول لها الطبيب كل مرة: زى الفل، فتُقبّل الصورة بحنان جارف وتضعها فى حقيبتها، فقد كانت أمى تنتظر هذا الحمل لخمس سنوات كاملة، تتأرجح فيها بين الأمل واليأس.
حتى جاء اليوم الذى أخبرها الطبيب بأن الحبل الصرى يلتف حول عنقى ويخنقنى ولابد من إجراء عملية قيصرية طارئة، رحت أتحسس رقبتى. نعم حبلى الصرى يلتف حولها ولكنه لا يخنقنى، لقد تعودت أن ألهو معه وألفه حول عنقى، حبلى الصرى برىء مما يدعيه هذا الطبيب، فلماذا يكذب الرجل وموعد ولادتى بعد ستة أسابيع؟!
سمعت خليط أصوات وآلات معدنية تصطك ببعضها، لحظتها أدركت أننا بغرفة العمليات وأنهم سيجرون العملية القيصرية ليخرجونى من جنتى قبل موعدى، فرحت أصرخ فيهم بلا صوت: «أنا بخير. لا شىء يخنقنى. أرجوكم اتركونى. ولم يسمعنى أحد».
سرت فى جسد أمى الضئيل رعشة خوف بارد، لم أكن أعرف أن للخوف هذه البرودة حتى ارتجفت من شدتها وتكورت فى بوتقتى، ورحت أنصت، فسمعت صوت أمى الحبيبة تتمتم بآيات قرآنية ثم بدأت تدعو لى: (احفظه وخليه يا رب. بارك فيه يا رب)، أحسست وكأن دموعها تتساقط لداخلها وتنزل على وجهى، فلم أعد أدرى من فينا يبكى من أجل من!
ثم صمتتْ تماما إلا من صوت أنفاسها ودقات قلبها المنتظمة، وفى لحظة انفتحت بوتقتى فانقشع النور وبدأت الظلمة تلف كل شىء، وأخرجونى وحبلى الصرى يتدلى منى فقطعوه، ونظرت إليه مودعا ومبرئا لذمته، حملونى ووضعونى فوق سطح بارد.
(حيحتاج حضانة وتنفس صناعى كمان).. قالها أحدهم بحزم، بينما كان يعطينى بجهازه أنفاسا متقطعة. بدأ صدرى يضيق وأنفاسى تختنق، وكأن جبلا يجثم فوقى، وأتانى صوت أحدهم: (ما فيش حضانات وبعتنا أبوه يدور على حضانة بجهاز تنفس). ومرت ساعات ثقيلة بطيئة وأنا أزداد ضعفا على ضعف، حتى سمعت خطوات تقترب منى، لأرى أمى الحبيبة جاءتنى تستند على كتف أبى، رغم جرحها والدموع تملأ عينيهما، واقتربت منى وقبلتنى فى جبينى وانفجرت فى البكاء وتمنيت أن أنطق لأخفف عنها، أعتذر لها، أشرح لها أنه لم يكن ذنبى فحبلى الصرى برىء والله العظيم برىء، وتنبهت على صوت أبى يكبّر فى أذنى بصوت خاشع، ولحظتها نظرت فى عينيه فحبس دمعه وابتسم وكأنه يخفف عنى ويشجعنى. هكذا إذن هم الآباء.
وضعونى بالحضانة المتنقلة فى عربة الإسعاف وانطلقوا بى نحو المستشفى الآخر، حيث الحضانة وجهاز التنفس، ويبدو أنه بعيد أو أن الطريق مزدحم، فقد سمعت الطبيب المصاحب لى يقول للسائق: (اتصرف يا أسطى الولد حالته بتسوء وكل دقيقة تفرق)، عندها بدأت أقلق وتذكرت أمى وأبى وأملهما فىّ، وبدأت أتابع سيارة الإسعاف تسرع أحيانا فيزداد أملى وتبطئ أحيانا فأحزن.. ثم توقفت تماما. فلم أجد ما أفعله، فنظرت من خلال جدار الحضانة الشفاف ونافذة سيارة الإسعاف إلى السماء. كم هى جميلة السماء! كيف لم ألحظ جمالها وانشغلت عنها بالطريق؟! وبدا وكأن الجبل الجاثم على صدرى يصعد لهذه السماء، وهدأت أنفاسى وسكت كل شىء وعدت إلى بوتقة الرحمة الخالصة