الخطيب / محمد بن أحمد حسين الزيداني
1- ثناء النبي على عثمان &. 2- مآثر عثمان وبلاؤه الحسن. 3- اشتراء عثمان للجنة مرتين. 4- الوظيفة الحقيقية للمال.
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا أيها المسلمون، سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:21].
أيها النّاس، عنوان خطبة اليوم: اشترى الجنة مرتين، ويا تُرى مَنْ ذلكم الثريُّ الغنيّ الموفّق؟ وكيف كان له ذلك؟ وعلى يد مَنْ كان العَقد؟ وهل للجنّة ثمن؟ وهل لنا أن نحذوَ حذوَ هذا الخيِّر المحظوظ؟ أما ذلكم العظيم حقًّا فهو أشدّ أمّة محمد حياءً، هو من تستحي منه الملائكة، هو رفيق نبينا محمد في الجنة، ذلكم هو عثمان بن عفان رضي الله عنه، ذو النورين، قال عنه : ((اللهم إني رضيت عن عثمان فارضَ عنه، غفر الله لك ـ يا عثمان ـ ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما هو كائن إلى يوم القيامة)). هو أحد العشرة المبشرين بالجنة وقال عنه : ((عثمان في الجنة))، وقال: ((رحمك الله يا عثمان، ما أصبت من الدنيا ولا أصابت منك)).
لما استقرّ الحبيب محمد وأصحابه في دار الهجرة المدينة المنوّرة نالهم العناء من قلة الماء، وكانت هناك عين ماء عذبة حلوة المذاق يملكها يهودي تدعَى بئر رومة، فقال : ((من يحفر بئر رومة فله الجنة))، وهنا تسلّل الشوق في قلب عثمان إلى الجنة، فليس له طلب سواها، ورشّح نفسه لنيل هذا الكسب العظيم، وساوم صاحب البئر أن يبيعها له فأبى، فطلب منه بيع نصفها، واشترى النصف باثني عشر ألف درهم، ثم اشترى النصف الآخر، وفاض الماء لأهل المدينة دون ثمن يُطال ويُنال، واحتسب أجرها على الله، وفاز عثمان رضي الله عنه، واطمأنت نفسه التي لا يرى لها منةً على مسلم، فليس له من البئر إلا ما لأقصى المسلمين.
وفي السنة التاسعة للهجرة يترامى إلى سمع النبي عزمُ هرقل الروم على غزو الجزيرة العربية قتلاً للدين الجديد بها وإبادةً للمسلمين، فينادي النبي الأكرم محمد في المسلمين، ولبُعد الشقّة يحدّد لهم النبي وجهته ليستعدّوا، فوجهتهم تبوك، والمسلمون يعانون القحط والجدب، وحرارة الشمس ملهبة، وصدر الصحراء هو طريق الرحلة الوحيد، فأين منه تحيد؟! وتستجيب النفوس المؤمنة، وتتقاطر الصفوف، ويأتي كلٌ بما تجود به نفسه من مال وعتاد، وامتدت أيادي التبرعات من الصغير والكبير، من الذكر والأنثى، حتى أن أبا بكر رضي الله عنه خرج من ماله كله، وعمر رضي الله عنه قدّم نصف ماله، ولكن لا غنى، إنّ هذه الآلاف المؤلفة والجموع المحتشدة في حاجة إلى زاد وعتاد، وأين منهم تبوك؟! والناس في عسر، حتى أطلق على الجيش جيش العسرة، ويطلّ عليه الصلاة والسلام إطلالة الصادق الوفيّ البر الرحيم إطلالة المدرك، إطلالة القائد المحنك الواعي إلى جموع المسلمين التي باعت لله الغالي والنفيس وأتت ملبية نداء الجهاد ويقول: ((من يجهز هؤلاء ويغفر الله له))، وينبلج الشوق في قلب عثمان رضي الله عنه كالنور، فمن ذا الذي لا يريد مغفرة الذنوب ودخول الجنة؟! وينقلب العسر إلى يسر، ويُفَرَّجُ الكرب، ويتّسع المضيق، وتمطر سحب الطمأنينة والهناء في نفوس جنود الإيمان.
القوس دائمًا في حاجة إلى الباري، والسهم في حاجة إلى الرامي، والخيل في حاجة إلى الفارس، والمشكلة في حاجة إلى الحلاّل، والكلمة في حاجة إلى اللسان، والأمة في ذلك اليوم وفي كل يوم في حاجة إلى ذي مال غني كريم كعثمان، وإلى قائد عظيم كمحمّد .
يقول خالد محمد خالد ـ رحمه الله وجميع موتى المسلمين ـ في كتابه خلفاء الرسول: "وهكذا وجدت العسرة الضاغطة عثمانها المعطاء، وقدم عثمان رضي الله عنه لجيش العسرة تسعمائة وأربعين بعيرًا وستين فرسًا أتم بها الألف كما يقول ابن شهاب، وجاء بعشرة آلاف دينار صبها بين يدي القائد الحبيب محمد ، وجهّز عشرة من القراء على حسابه، وجهّز الجيش كلّه حتى لم يتركه في حاجة إلى خطام أو عقال، حتى قال : ((ما ضرّ عثمان ما عمل بعد اليوم، اللهم ارضَ عن عثمان فإني عنه راض)). يقول أبو هريرة رضي الله عنه: اشترى عثمان بن عفان من رسول الله الجنة مرتين: حين حفر بئر رومة، وحين جهز جيش العسرة.
من لي بمثل سـيرك المدلل تمشي رويدًا وتجي في الأوّل
أيها الناس، وما وقف العطاء العثماني عند هذا الحدّ، فعطاؤه وبذله وإنفاقه في سبيل الله تضيق بسرده الدواوين.
وها هي يمين الكرم العثماني تلوح لنا لاقتفاء الأثر، والسير على النهج، فكلنا أصحاب أموال ولو قَلَّتْ، وافتداء النفس ولو بالقليل مطلوب، فقدموا لأنفسكم، وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المزمل:20].
الخطبة الثانية
الحمد لله الوهاب الكريم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله .
أما بعد: فيا إخوة الإيمان، ها هو عثمان رضي الله عنه كما في الموقفين السابقين يعلن للدنيا وظيفة المال الحقيقية ودوره الأكرم، فسابق به تجارةً رابحةً مع الله، وذلكم العطاءُ العثمانيُ المنقطعُ النظير يُلغي من حسابنا اللهث وراء ماديات الحياة، وجمع المال كذبًا أو زورًا أو اختلاسًا أو غشًّا أو سرقة أو خداعًا أو رِبا، نعم يذكرنا بأن المال مالُ الله ولو احتوته منا الخزائن.
فهل نصِل ـ أيّها الناس ـ إلى مرتبةِ الوعي بأنه ما كان للعبد أن يكون مالكًا؟! لا بد ـ إخوة الإيمان ـ أن نقوي في قلوبنا الإيمان، نعم نحن في زمن سار الناس لجمع المال وطاروا، ولفّوا مع الأسف وداروا.
لا ننس ـ أيها الناس ـ أننا في حاجة إلى أموالنا في الآخرة أشدّ من حاجتنا إليها في الدنيا، وأشد من حاجة عثمان رضي الله عنه إلى ماله، فعثمان رضي الله عنه صحابي في طليعة من أسلم، ثالث الخلفاء الراشدين، لقي الله صائمًا حيث كان يُمضي أكثر أيامه منذ أسلم صائمًا وأكثر لياليه قائمًا، لما ضربت كفهُ وأحس ألم الضربة قال: (والله، إنها لأول يد خطّت المفصّل وكتبت آي القرآن). عثمان رضي الله عنه لقي ربه شهيدًا، ضُرِبَ وهو يقرأ القرآن، فلما أيقن فراق الدنيا ولقاء ربه احتضن المصحف إلى صدره.
أيها الناس، إننا في حاجة إلى أموالنا في الآخرة أشد من حاجة عثمان رضي الله عنه، غدًا تتوزّعنا نحن وأسرنا زوايا وحفر الأرض، كل سَيُرتَهَن في حفرته، الأب في حفرة، والابن في حفرة، والأم في حفرة، والأخ في حفرة، والأخت في حفرة، ألستَ في حاجة إلى أقلّ القليل من الأجر في تلك الحفرة؟! ألسنا في حاجة إلى أموالنا إذا تمزقت منا الأوصال، وتباعد منا المقترب، وتفرق منا المجتمع، واتحد علينا الليل والنهار، ونسينا المعارف؟! عثمان رضي الله عنه اشترى الجنّة من رسول الله مرتين، فكم مرة شريت؟! لا تنس أن لديك مالاً، احسب منه نسبة دائمة لله تزيد ولا تنقص دعمًا لمجاهد أو كفالة ليتيم أو مواساة لمسكين أو كسوة لعار أو إطعامًا لجائع أو برًا بأقارب أو إجابةً لسائل، اغلب الأنانية، واهزم الشيطان، قال : ((لا يُخرج رجلٌ شيئًا من الصدقة حتى يفكّ عنها لحيي سبعين شيطانًا)) رواه أحمد والبزار والطبراني وابن خزيمة.
ألا صلّوا وسلموا ـ أيها الناس ـ على النبيّ الأمّي المجاهد المنفق محمد بن عبد الله بن عبد المطلب...